تغرق ليبيا في أزمة اقتصادية ومالية عميقة، لم تعد مجرد تحدٍ عارض، بل أصبحت نتيجة لانهيار ممنهج للعدالة المالية، مما حول الثروة الوطنية إلى مصدر مباح لشبكات الفساد والمافيا، إن الصورة التي يرسمها الواقع الليبي من شحّ السيولة وارتفاع الأسعار، إلى تدمير البنية التحتية وصناعة الفقر متعدد الأوجه، هي انعكاس مباشر لغياب فعالية العدالة المالية، التي عجزت عن حماية المال العام ومكافحة الفساد المستشري.
جذور الأزمة: من الاعتمادات الوهمية إلى السوق الموازي
القلب النابض للخلل المالي يكمن في صناعة السوق الموازي، التي تُغذّى بشكل رئيسي عبر الاعتمادات المستندية، هذه الآلية، التي كان يفترض بها أن تخدم التجارة الشرعية، تحوّلت إلى قناة لتسهيل تهريب العملة واستنزاف الاحتياطات النقدية.
- التمويل الوهمي: تُفتَح الاعتمادات بناءً على فواتير وسلع قد تكون وهمية أو مُضخّمة القيمة بشكل كبير. يتمّ سحب العملة الأجنبية بالسعر الرسمي الرخيص، لبيعها لاحقًا في السوق الموازي بأسعار أعلى بكثير، محققة أرباحًا هائلة لمجموعات محدّدة على حساب المواطن العادي واقتصاد الدولة.
- عمليات التهريب والمصادرة: لم تعد هذه العمليات سرًا، بل انكشفت على الساحة الدولية، كما حدث مؤخرًا في تركيا، حيث كشفت قضايا مصادرة مليارات الدولارات وعقارات وفنادق عن ضخامة شبكات التهريب التي تستغلّ هذه الثغرات الممنهجة، هذه الأحداث ليست حوادث فردية، بل هي دليلٌ قاطع على تدميرٍ اقتصادي ممنهج شاركت فيه أطراف عديدة.
تداعيات العدالة المالية الغائبة على المجتمع
إنّ غياب العدالة المالية ليس مجرد مشكلة إدارية، بل كارثة اجتماعية تضرب أساس الحياة اليومية للمواطن الليبي:
- انهيار النظام المصرفي وشحّ السيولة: يُعاني النظام المصرفي من شلل شبه كامل، حيث تُستخدم البنوك كأدوات لتمرير العمليات المشبوهة بدلاً من خدمة المواطنين، ينتج عن ذلك شحّ مزمن في السيولة النقدية، مما يضطر المواطنين للجوء إلى السوق السوداء لبيع العملة والدفع، ما يُعمّق من الأزمة.
- التدهور المعيشي: أدت ممارسات السوق الموازي وانهيار سعر صرف الدينار إلى غلاء فاحش للأسعار، يصاحبه تفشٍ للبطالة، خاصّة بين الشباب، هذا المزيج ينتج فقراً ممنهجاً متعدد الأوجه، يطال التعليم والصحة والقدرة الشرائية.
- البنية التحتية المتدهورة: في ظلّ تبخّر الأموال العامة في قنوات الفساد، تظلّ البنية التحتية الأساسية، بما في ذلك البنية التحتية الرقمية، في حالة يرثى لها، مما يعيق أي جهود للإصلاح الاقتصادي أو الشفافية.
المعوقات البنيوية: الإفلات من العقاب والتدخلات السياسوية
تظلّ العدالة المالية في ليبيا مجرّد حبر على ورق، لا لضعف في التشريعات، بقدر ما هو بسبب معوقات بنيوية تحمي الفاسدين:
- ضعف الملاحقة القضائية: على الرغم من ضخامة الفساد، فإنّ عمليات الملاحقة والمحاسبة الفعلية تظلّ ضعيفة ومحدودة، مما يمنح الفاسدين شعوراً بالإفلات من العقاب.
- التدخلات المافوية والسياسوية: يُعدّ المال العام هدفاً مباحاً لـ التدخلات المافوية التي تحول الأموال للاستخدام الشخصي غير المشروع، يضاف إلى ذلك التدخلات السياسوية التي تشلّ عمل الأجهزة الرقابية والقضائية، وتجعلها عاجزة عن اتخاذ قرارات حاسمة خوفاً من الردود أو التداعيات السياسية، هذه التدخلات تُفسّر سبب تحوّل التوصيات والاجتماعات المتعددة مع المؤسسات الدولية المالية إلى أوهام لا تُترجم إلى إصلاحات ملموسة.
إنّ إصلاح المشهد الاقتصادي الليبي يبدأ بإعادة بناء العدالة المالية كأولوية قصوى، لا يمكن تحقيق الاستقرار الاقتصادي أو معالجة الفقر الممنهج دون تحرير المؤسسات المالية والقضائية من قبضة الفساد والتدخلات السياسية، والبدء بمحاسبة عاجلة وشفافة لكل من شارك في تدمير الثروة الوطنية.
وسائل إعلام تركية: الشرطة تقبض على 60 شخصًا مرتبطين بشبهات غسل أموال.. بعضها مرتبط بليبيا