عبدالوهاب الفايز
يبدو أن منطقتنا مضطرة لمواجهة مصيرها الوجودي الذي تفرضه مشاريع إسرائيل، الصغيرة والكبيرة، بل ربما العظمى، مما يجعلنا مرتبطين قسراً بالمواضيع الوجودية الأساسية رغم مرارتها، خصوصاً مع استمرار قائمة الشهداء في غزة في الارتفاع يومياً، وللمؤسف، هو موقف الإعلام الغربي الذي يدّعي أنه نصير العدالة والحرية.
منذ تصاعد العدوان الإسرائيلي على غزة، أصبح الإعلام الغربي يبدأ مقابلاته بسؤالين متكررين، الأول يُطرح بصيغة شبه موحدة: ما رأيك في هجوم السابع من أكتوبر على إسرائيل، وهل تعتقد أنه الأخطر منذ الهولوكوست؟ أما الثاني فيتوجه غالبًا للمسؤولين العرب أو المسلمين: لماذا تقولون إن ما يحدث في غزة إبادة جماعية؟
السؤال الأول يبدو كأنه (طقس واجب) يقصد به تسجيل موقف داعم لإسرائيل، وإظهار التعاطف معها، تعكس هذه الحالة ضغوطًا كبيرة في الأوساط الإعلامية والسياسية الغربية، حيث يُلاحق كل من يظهر التعاطف مع ضحايا غزة.
أما السؤال الثاني فيعكس مأزقًا ذهنيًا وثقافيًا في الوعي الغربي، أكثر مما يعبر عن رغبة لفهم الموقف العربي، فالتردد في الاعتراف بالإبادة يُظهر بقايا عقلية تشكّلت على التفوق العرقي والحضاري للإنسان الأبيض، مما يجعل من الصعب على الإعلام الغربي الإقرار علنًا بأن إسرائيل تقوم اليوم بأبشع الجرائم ضد الفلسطينيين.
هذا التردد ليس مجرد تحفظ لغوي أو حذر قانوني، صحيح أن مصطلح “الإبادة الجماعية” في القانون الدولي يعتبر مصطلحًا ثقيلًا، يترتب عليه التزامات قضائية وأخلاقية، ويستحضر ذكريات محاكمات نورمبرغ ورواندا والبوسنة، لكن وراء هذا الحذر تكمن قصة أعمق: الغرب لا يزال مُوجهًا بسلوكه ضمن إطار ذهني قديم هو شرعية الاستعمار.
منذ القرون الأولى للتوسع الأوروبي، وُضعت مبررات فكرية وأخلاقية لتبرير السيطرة على الشعوب الأخرى، كتب جون لوك، وهو من رموز الليبرالية، أن الأرض ملك لمن يزرعها ويطورها، مما فتح الباب للاستيلاء على أراضي الشعوب الأصلية في الأميركتين باعتبارها “أرضًا بلا استعمال”، بينما ذهب الفيلسوف الألماني هيغل إلى ما هو أبعد من ذلك، مُعتبرًا أن هناك “أممًا غير تاريخية” لا تنتج حضارة ولا تستحق السيادة، وفي القرن التاسع عشر، تبلورت فكرة “الرسالة التمدينية” التي اعتبرت استعمار أفريقيا وآسيا واجبًا أخلاقيًا.
لم تكن هذه الفلسفات مجرد تنظيرات، بل تحولت إلى سياسات عملية، حيث حدثت إبادة السكان الأصليين في الأميركتين، وتُعَبر أستراليا عن نفسها كـ “terra nullius” أي أرضًا بلا مالك، وتقسيم أفريقيا في مؤتمر برلين كأنها خالية من الشعوب، وكانت إنكار الآخر أو تجريده من إنسانيته شرطًا لاستمرار المشروع الاستعماري.
إسرائيل هي الابن الشرعي لهذه الحضارة الغربية، فالمشروع الصهيوني وُلِد في أحضان تلك الذهنية الاستعمارية، شعار “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض” لم يكن دعاية بريئة، بل إعادة إنتاج لفكرة الأرض الفارغة، وعند وعد بلفور عام 1917، نصّت بريطانيا على دعم إقامة وطن قومي لليهود، ولم تذكر الفلسطينيين إلا بوصفهم “طوائف غير يهودية” في وطنهم، ومع قيام إسرائيل عام 1948، تُرجِم هذا الإنكار إلى سياسة عملية: النكبة، وتهجير أكثر من 700 ألف فلسطيني، وتدمير مئات القرى.
وثق المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابه في كتابه “التطهير العرقي في فلسطين” (2006) ما سماه “الخطة د” التي أعدتها المنظمات الصهيونية لتهجير الفلسطينيين قسرًا، ويؤكد أن ما جرى لم يكن نتيجة حرب طارئة، بل مشروعًا متعمدًا للتطهير العرقي، حدث في ظل رعاية بريطانية وفرت الغطاء وسهّلت الطريق، هذا الربط بين الاستعمار البريطاني والمشروع الصهيوني يوضح أن إسرائيل لم تكن انقطاعًا عن التاريخ الغربي، بل امتدادًا له.
لا يمكن هنا إغفال أطروحات إدوارد سعيد، الذي شرح في كتابه “الثقافة والإمبريالية” كيف لعبت الرواية والشعر والأوبرا دورًا في تطبيع الاستعمار وتجميل صورته، من جوزيف كونراد في “قلب الظلام”، إلى جين أوستن في “مانسفيلد بارك”، كان وجود الإمبراطورية شرطًا للرفاه الأوروبي، هذه الثقافة صاغت اللاوعي الغربي بحيث بدا الاستعمار أمرًا طبيعيًا ومبررًا أخلاقيًا، واليوم، يعمل الإعلام الغربي ضمن هذا الإرث الثقافي الممتد: يرى الآخر أقل شأنًا، ويتردد في استخدام المصطلحات الكبرى لوصف معاناته.
عندما يواجه الصحفي الغربي صور الدمار في غزة، يتردد باستخدام كلمة “إبادة”، وكأنها أكبر من أن تُمنح لضحايا لا ينتمون للغرب، في لاوعيه ما زال هناك تصور بأن حياة الغربي مركزية، وحياة الشعوب الأخرى قابلة للتجاهل أو التضحية، لذا يُختصر موت آلاف المدنيين الفلسطينيين بعبارة “أضرار جانبية”، بينما يعتبر سقوط ضحية واحدة في أوروبا أو أميركا مأساة تهز الضمير العالمي.
كما أشرنا في الأسبوع الماضي، تغير الزمن، ولم يعد ممكنًا احتكار السردية كما في الماضي، وسائل التواصل الاجتماعي كسرت الحواجز، والعالم بأسره يرى ما يحدث في غزة بلا وسيط، الصور لا تتحمل التجميل أو التبرير، وهذا يعمق مأزق الإعلام الغربي: فالتردد لم يعد يحمي إسرائيل، بل يفضح ازدواجية الغرب، وكشف عجزه عن التحرر من إرثه الاستعماري.
يبقى السؤال الجوهري: هل الغرب مستعد لمواجهة هذا الواقع؟ الاعتراف بما يحدث في غزة كإبادة جماعية يعني نسف أحد أعمدة السردية التي قامت عليها إسرائيل، فقبول هذا التوصيف يعني أن المشروع الصهيوني لم يكن “عودة طبيعية” لشعب إلى أرضه، بل مشروعًا استعماريًا إقصائيًا منذ بدايته.
إن ما يحدث في غزة ليس حربًا عادية، بل اختبار تاريخي للضمير الغربي، فإذا استمر الغرب في التردد، فهذا يعني أنه لم يتحرر بعد من عقدة التفوق الحضاري التي حكمت وعيه وشرّعت استعمار الشعوب، أما إذا قرر الاعتراف، فسيكون ذلك بداية مراجعة عميقة، ليس فقط لدوره في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بل لأسس نظرته للعالم بأسره.
الحقيقة أن الشعوب لم تعد تنتظر تعريف الغرب أو اعترافه، فهي ترى الإبادة حية على الشاشات، وكلما تأخر الغرب في قول الكلمة، زاد انكشافه الأخلاقي، وتأكد أن عقلية الاستعمار لم تخرج بعد من بنيته العميقة، لكن كما انتهى الاستعمار الكلاسيكي رغم كل قوته، فإن هذه العقلية محكوم عليها بالزوال، لأن التاريخ لا يرحم من يتجاهل إنسانية الشعوب وحقها في الحياة.
ورغم تكبر الصهاينة وغطرستهم، هناك بارقة أمل، المظاهرات الواسعة في العواصم الأوروبية والأميركية ضد الوحشية الإسرائيلية في غزة تعكس ضميرًا حيًا داخل الغرب نفسه، وتؤكد أن البنية الاستعمارية ليست قدرًا أبديًا.
هذا الحراك الشعبي يضغط على الساسة، ويمهد لتحولات أعمق، وعندما وقف نتنياهو في الأمم المتحدة ليجدد رفضه قيام دولة فلسطينية، كان يدرك أن الاعتراف الأممي بالدولة الفلسطينية ليس مجرد خطوة رمزية، بل لحظة تاريخية تعيد فتح ملف الجذور الاستعمارية للمشروع الصهيوني، رفضه المستمر لهذا الاعتراف ليس رفضًا سياسيًا فحسب، بل تمسك بإنكار الآخر، وهو جوهر الفكر الاستعماري ذاته.
إن المأساة الفلسطينية اليوم تعيد إلى الواجهة سؤالًا قديمًا: هل يستطيع الغرب أن يتحرر من شرعية الاستعمار التي غذت حضارته، أم أنه سيبقى أسيرها حتى في القرن الحادي والعشرين؟ الجواب لم يعد بيد الحكومات وحدها، بل بات بيد شعوب العالم التي ترى الحقيقة بلا وسطاء، وتدرك أن إنكار الآخر هو أصل كل المآسي.
عندما قدم إدوارد سعيد نقده الأدبي والثقافي لإبداعات الأدب والفن الأوروبي، كان مرجعه هو ندرة من اعترضوا على مفهومي “الأعراق الخاضعة والأدنى مكانة”، وغيرها، وهذا شكل نظرته السلبية للمحتوى الثقافي والفكري المُبرر للإمبراطورية والإمبريالية، الذي تضمنته هذه الأعمال الأدبية والفنية، بالطبع، واجه موجة احتجاج من النخبة الفكرية والأدبية الأوروبية لأن هؤلاء النقاد نظروا للجماليات، ولم يستوعبوا عمق المأساة الإنسانية للشعوب المستعمرة، ولأنهم “لُقنوا آداب أوطانهم المكرسة الكلاسيكية قبل أن يقرأوا آداب الآخرين”، ولذا تأسس لديهم “الولاء غير النقدي غالبًا إلى أممهم وتراثهم، فيما يزدرون الآخرين ويحاربونهم”، وهذا ربما هو حال الإعلام الغربي ومؤسساته الثقافية والفكرية.