تقوم الصين بتنفيذ تغييرات جذرية في بنية سوق الذهب لديها، في خطوة قد تُحدث تحولًا في النظام النقدي العالمي، وتشتمل هذه المبادرات الاستراتيجية على توسيع قدرات التخزين (الخزائن)، وإنشاء أنظمة مقاصة جديدة، وتخفيف قيود الاستيراد — وكلها تهدف إلى ترسيخ موقع الصين كلاعب محوري في تجارة الذهب العالمية وربما تحدي هيمنة الدولار.
توسع “مركز الذهب في هونغ كونغ”
تمثل السياسات الأخيرة لهونغ كونغ خطوة مهمة في استراتيجية الذهب الصينية، حيث تحمل خططًا طموحة تشير إلى التزام طويل الأمد بتطوير سوق الذهب، وتهدف السياسات الجديدة إلى زيادة سعة تخزين السبائك في هونغ كونغ إلى 2000 طن — وهو توسع كبير يستوعب احتياطيات ضخمة من الذهب المادي، ولا يبدو أن هذه القدرة مخصصة للاحتياطيات المحلية فقط، بل يُعتقد أنها صُممت أيضًا لخدمة المشاركين الدوليين الباحثين عن بدائل للخزائن الغربية التقليدية.
الأهم من ذلك أن هونغ كونغ بصدد إنشاء نظام مقاصة مركزي مخصص لمعاملات الذهب، ستوفر هذه البنية “السباكة المالية” الضرورية لإتمام الصفقات خارج الأنظمة الغربية، وهو ما قد يقلل الاعتماد على مؤسسات مثل بورصة كومكس (COMEX) ورابطة سوق السبائك في لندن (LBMA)، وبهذا التطوير، تتأهل هونغ كونغ لتصبح مركزًا دوليًا رئيسيًا لتجارة الذهب، يعمل ببنية تحتية مستقلة عن الأنظمة المالية الغربية، ويوفر مسارًا بديلاً للدول الراغبة في إجراء صفقاتها بعيدًا عن القنوات التقليدية.
النمو الاستراتيجي لبورصة شنغهاي للذهب
منذ تأسيسها عام 2002، تطورت بورصة شنغهاي للذهب (SGE) من منصة تداول محلية إلى كيان دولي يزداد نفوذًا عالميًا، وفي خطوة لافتة، افتتحت البورصة أول خزانة خارجية لها في هونغ كونغ عام 2023، لتوسع بذلك وجودها المادي خارج البر الرئيسي الصيني، وتزامن ذلك مع إطلاق عقدين جديدين للذهب صُمما خصيصًا للمستثمرين الدوليين — في إشارة واضحة إلى نية الصين جذب مشاركة عالمية أكبر.
تتيح هذه العقود الجديدة مسارات لتداول الذهب مقوّمًا باليوان بدلًا من الدولار، ما يدعم أهداف بكين في تدويل عملتها باستخدام الذهب كركيزة للثقة، وتستفيد الصين هنا من القبول العالمي للذهب لتعزيز الثقة في المعاملات المقومة باليوان، وتمتاز مقاربة بورصة شنغهاي بتركيزها على التداول الفعلي للذهب، بخلاف الأسواق الغربية التي تهيمن عليها المشتقات الورقية، إذ تشترط البورصة التسليم الفعلي لمعظم الصفقات، ما يجعل السوق يعكس بشكل أوضح ديناميكيات العرض والطلب المادي.
لماذا تعطي الصين الأولوية للذهب في استراتيجيتها الاقتصادية؟
تمثل السياسات الصينية المتعلقة بالذهب مقاربة منسقة تتجاوز فكرة تراكم الأصول، إذ إنها تعالج أولويات اقتصادية وجيوسياسية متعددة في آن واحد، فالذهب يؤدي دورًا مزدوجًا في استراتيجية بكين، بصفته أصلًا ماليًا وأداة جيوسياسية، وهو ما يمنح الصين مزيجًا فريدًا من الأمان الاقتصادي والمرونة الاستراتيجية في بيئة عالمية تتسم بقدر متزايد من عدم اليقين.
الابتعاد عن الاعتماد على الدولار
تشكل البنية التحتية الجديدة للذهب آلية لتقليل الاعتماد على الدولار الأميركي في التجارة والتمويل الدوليين، فالنظام الصيني يسمح بتسوية الصفقات دون الحاجة إلى الدولار، ما يتيح للشركاء التجاريين تجاوزه تمامًا عند الضرورة، ويؤسس الذهب في هذه الحالة كملاذ آمن بين الشركاء — أصل لا ينطوي على مخاطر طرف مقابل ولا يخضع لسيطرة أي دولة واحدة، والأهم من ذلك أن هذا النظام يوفر قناة مالية مقاومة للعقوبات الدولية.
فمنذ العقوبات الغربية على روسيا عام 2022، أدركت دول كثيرة هشاشتها داخل المنظومة الدولارية وبدأت تبحث عن بدائل، وهنا تطرح الصين بنيتها الذهبية كخيار عملي، وبربط اليوان بالذهب عبر هذه الآليات، تعزز الصين الثقة في المعاملات المقومة بعملتها، دون الحاجة لإرساء معيار ذهبي رسمي، مما يسمح باعتماد تدريجي بدلاً من تغييرات مفاجئة قد تهز الأسواق.
السيطرة على آليات تسعير السلع
تهدف الصين من خلال سياسات الذهب أيضًا إلى تعزيز نفوذها على آليات تسعير السلع الأساسية التي تؤثر في اقتصادها، فقد عانت طويلًا من هشاشة أمام أنظمة تسعير تهيمن عليها المؤسسات الغربية، خصوصًا للسلع التي تستوردها بكميات ضخمة، ومن خلال تطوير بدائل لنظامي كومكس وLBMA، تسعى بكين لكسب تأثير أكبر على تقييم هذه الموارد.
ويسمح التركيز على التسليم الفعلي في البورصات الصينية بآليات لاكتشاف الأسعار تستند إلى السوق المادي، على عكس الأسواق الغربية التي يتجاوز فيها حجم العقود الورقية أحيانًا أضعاف الذهب المادي المتاح، ما قد يشوّه الأسعار، هذا النهج يقلل من التعرض لمخاوف “التلاعب بالأسعار” التي طالما عبّر عنها مسؤولون ومتعاملون صينيون، والذين يرون أن العقود الورقية قد تُستخدم لكبح الأسعار بشكل مصطنع، وبناءً على ذلك، تكتسب الصين ميزة اقتصادية واستراتيجية في أسواق السلع العالمية.
الاندماج مع مبادرة “الحزام والطريق”
يلعب الذهب دورًا محوريًا في مبادرة “الحزام والطريق” التي أطلقتها الصين عام 2013، والتي تُعد واحدة من أكبر برامج تطوير البنية التحتية في العالم، توفر بنية سوق الذهب آلية تسوية موثوقة لشركاء المبادرة الذين قد يترددون في زيادة تعرضهم للديون أو الأصول المقومة بالدولار، ومن خلال تقديم الذهب كبديل، تجعل الصين المشاركة أكثر جاذبية للدول الساعية لتقليل اعتمادها على المنظومة المالية الغربية.
هذا التوجه يوفر بديلًا عن الديون الدولارية لتمويل البنية التحتية، ويعزز الروابط الاقتصادية بين الصين والدول المشاركة، خصوصًا تلك الغنية بالموارد في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، ومن خلال خلق قنوات مالية بديلة، تعزز الصين علاقاتها الاقتصادية مع هذه الدول وتقلل في الوقت نفسه من اعتمادها على الأنظمة الغربية، ما يعزز أمنها على المدى الطويل ونفوذها الاقتصادي عالميًا.