«لماذا يواصل الذهب التألق والارتفاع في قيمته خلال الأزمات التاريخية؟»

يعرف الذهب كملاذ آمن في أوقات التقلبات الاقتصادية والسياسية، حيث يفضله الناس كاستثمار طويل الأجل وتحوط ضد حالة عدم اليقين الاقتصادي.

استقرار الذهب وتاريخه في الحفاظ على القيمة

رغم تقلبات سعره على المدى القصير، إلا أن المعدن النفيس يمتلك تاريخاً طويلاً في الحفاظ على قيمته، إذ يُعتبر وسيلة فعالة للحفاظ على الثروة خلال فترات تآكل القوة الشرائية للعملة الورقية بسبب التضخم، وغالباً ما تكون حركات سعر الذهب مرتبطة بشكل منخفض أو عكسي مع الأصول التقليدية مثل الأسهم والسندات، مما يعني أنه عندما ينخفض سوق الأوراق المالية، قد يتحسن أداء الذهب، والعكس صحيح.

مسار سعر الذهب في ظل السياسات النقدية

مع كل دورة اقتصادية تشهد فيها الولايات المتحدة خفضًا لأسعار الفائدة، تزداد جاذبية المعدن النفيس، إذ يسعى المستثمرون إلى الأصول التي تحافظ على قيمتها في ظل ضعف العوائد على السندات والدولار، وعبر التجارب السابقة، نجد أن فترات التيسير النقدي غالباً ما تقترن بموجات صعود قوية للذهب.

سعر الذهب في مستويات قياسية

اليوم، يسجل الذهب مستويات قياسية غير مسبوقة، حيث قفزت أسعاره في التعاملات الفورية إلى 3,700 دولار للأونصة، بينما ارتفعت العقود الآجلة لشهر ديسمبر إلى 3,731.70 دولار، في سابقة تاريخية تعكس حجم الإقبال الاستثماري على المعدن الأصفر، ويأتي هذا الارتفاع في سياق تزايد الضغوط التضخمية وتنامي التوقعات بتوجه سياسات الفيدرالي الأميركي لخفض الفائدة، مما يعزز جاذبية الذهب كأداة للتحوط.

العلاقة بين أسعار الذهب والسياسة النقدية

يرتبط سعر الذهب بشكل وثيق بسعر الدولار الأميركي وسياسات الفائدة الأميركية، وقد أظهرت التجارب السابقة، من أزمات الثمانينيات إلى أزمة 2008 وحتى جائحة كورونا، أن فترات التيسير النقدي غالباً ما ترافقها موجات صعود قوية في أسعار الذهب.

التحليل الاقتصادي لأسعار الذهب

يقول الخبير الاقتصادي كريم العمدة في حديث لـ”المشهد”، إن “أسعار الذهب شهدت منذ عام 2022 ارتفاعات غير مسبوقة، حيث تجاوزت الزيادة 100% خلال 3 سنوات فقط، فبعد أن كان سعر الأونصة يتراوح بين 1700 و1800 دولار في بداية الفترة، وصل اليوم إلى نحو 3500 دولار، وهو ما يعكس قفزة تاريخية في قيمته”.

ارتباطات سعر الذهب وأسعار الفائدة

بحسب العمدة، في النظريات الاقتصادية التقليدية، يرتبط سعر الذهب ارتباطًا عكسيًا بسعر الفائدة والدولار الأميركي:

• عند ارتفاع الفائدة، يتجه المستثمرون عادةً إلى شراء الدولار وسندات الخزانة للاستفادة من العوائد.
• وعند انخفاضها، يعمدون إلى بيع الدولار والسندات واللجوء إلى الذهب كملاذ آمن.

العوامل الجديدة في سوق الذهب

غير أن السنوات الأخيرة أظهرت متغيرات جديدة قلبت هذه المعادلة، إذ أصبح للتطورات الجيوسياسية أثرًا أقوى من تأثير أسعار الفائدة، فقد ساهمت النزاعات الدولية مثل الحرب بين إيران وإسرائيل، إلى جانب القرارات المرتبطة بالسياسة التجارية الأميركية، في إضعاف الثقة بالدولار وتراجع الإقبال عليه، كما أن السياسات الاقتصادية السابقة، ولا سيما خلال إدارة ترامب، كان لها دور بارز في إضعاف قوة الدولار، ما عزز مكانة الذهب كخيار استثماري مفضل، وفقًا للعمدة.

تحليل تأثير العوائد على سوق الذهب

تشرح خبيرة الاقتصاد الدولي د. سمر عادل لـ”المشهد”، أنه “عندما يبدأ العائد على السندات في الانخفاض، يتراجع الإقبال على الاستثمار فيها، وهنا يتجه المستثمرون بطبيعة الحال إلى الأصول الأكثر أمانًا، وفي مقدمتها الذهب، عادة ما يرتبط خفض سعر الفائدة بسياسات تيسير نقدي أو بتوقعات توجه إليها، مما يزيد من السيولة داخل النظام المالي، وبالتالي ترتفع أسعار الأصول ذات القيمة مثل الذهب الذي يمثل أداة تحوط أساسية”.

التضخم وأثره على أسعار الذهب

تضيف عادل “يظل التضخم عاملًا محوريًا في هذه المعادلة، فقيام الاحتياطي الفيدرالي بخفض الفائدة غالبًا ما يكون استجابة لضغوط اقتصادية أو توقعات بتغير في معدلات التضخم، وفي هذه الحالة يرى المستثمرون أن الذهب يوفر حماية فعّالة من تقلبات التضخم، وعلى المدى المتوسط، تشير التوقعات إلى ارتفاع معدلات التضخم في الولايات المتحدة نتيجة الحرب التجارية مع الصين، وهو ما يعزز بدوره من أهمية الذهب كوسيلة للتحوط، ويدفع أسعاره إلى مزيد من الارتفاع”.

تأثير الأزمة على الذهب والسلع الأخرى

لا تؤثر الأزمات الاقتصادية على الذهب وحده، بل تمتد لتشمل النفط والمعادن الأخرى، فمثلاً، في الأزمة المالية عام 2008، قفز سعر النفط إلى أكثر من 140 دولاراً للبرميل قبل أن ينهار بسبب الركود العالمي، وكذلك ارتفعت أسعار النحاس وغيره من المعادن المهمة مع دخول الصين في برامج تحفيز اقتصادي ضخمة، واليوم نرى وضعاً مشابهاً، حيث تدفع التوترات السياسية والحروب أسعار الذهب للارتفاع، لكنها أيضاً ترفع أسعار النفط والمعادن الإستراتيجية مثل الفضة والنحاس والليثيوم، وهذا يوضح أن أي اضطراب عالمي يترك أثره على مجموعة واسعة من السلع، ويكشف مدى ترابط الأسواق وضعفها أمام الأزمات.

الذهب وتأثيره على موازين النفوذ الاقتصادي

يعتبر الذهب عنصرًا محوريًا في موازين النفوذ الاقتصادي العالمي، حيث يمثل مخزناً آمناً للقيمة ويمنح الدول وسيلة للتحوط ضد تقلبات العملات والأزمات المالية، ومع تزايد التوترات الجيوسياسية وتراجع الثقة بالدولار، تتجه العديد من البنوك المركزية، خصوصًا في الاقتصادات الناشئة، إلى تعزيز احتياطياتها من الذهب بهدف تنويع أصولها وتقليل الاعتماد على الدولار.

العلاقة بين الدولار والذهب

تشرح الخبيرة الاقتصادية عادل العلاقة العكسية بين تراجع قيمة الدولار وارتفاع قيمة الذهب قائلة “يلعب ضعف الدولار دوراً مهماً وأساسياً في أسعار الذهب، فعندما تنخفض قيمة العملة الأميركية، يصبح شراء الذهب أقل تكلفة لحاملي العملات الأخرى، مما يزيد الطلب عليه”.

الاستثمار في الذهب كاستراتيجية مستقبلية

تضيف عادل “كما أن انخفاض الدولار غالباً ما يصاحب تراجع العوائد الحقيقية على السندات والأدوات النقدية، وهو عامل مهم يعزز جاذبية الذهب كاستثمار، أي أن العوائد الحقيقية تعد المحرك الأساسي للاستثمار في الذهب، حيث يؤدي تراجعها إلى ارتفاع الأسعار، بينما قوة الدولار عادة ما تحد من هذا الارتفاع”.

ختامًا، الذهب كمؤشر للعالم

تشير عادل إلى أن “أحد العوامل الرئيسية وراء ارتفاع أسعار الذهب يرتبط بتشابك الأحداث السياسية والاقتصادية على المستويين الإقليمي والعالمي، بما في ذلك التوترات الجيوسياسية، الحروب التجارية والاقتصادية، وعدم اليقين في استقرار النظام المالي العالمي”، وتستشهد بـ”مخاطر الصين، مثلاً، التي دفعت إلى تكثيف مشترياتها من الذهب بشكل كبير، كجزء من إستراتيجيتها لتنويع احتياطياتها وتقليل اعتمادها على الدولار، إضافة إلى تعزيز مكانة عملتها، اليوان، على الصعيد العالمي، وبذلك، لا تقتصر دوافع ارتفاع الذهب على السياسة النقدية وفوائد الاحتفاظ بالمعادن الثمينة، بل تشمل أيضاً جهود البنوك المركزية الكبرى لإعادة تشكيل موازين القوة المالية العالمية”، وترى عادل أنه “في ظل هذه العوامل مجتمعة، يبرز الذهب كملاذ آمن للمستثمرين يسهم في حماية قيمة الأموال وتقليل المخاطر الناتجة عن تقلبات الأسواق العالمية”، وبذلك لم يعد الذهب مجرد سلعة تتداول في الأسواق، بل أصبح مرآة تعكس أزمات العالم وصراعاته وتوجهاته الاقتصادية، بدءًا من ضغوط التضخم، إلى سياسات الفيدرالي، وصولاً إلى حروب العملات ونزاعات الجغرافيا السياسية، يواصل المعدن الأصفر تأكيد حضوره محافظًا على بريقه مهما تبدلت الظروف.

(المشهد)