بقلم: فيصل تايه
قررت لجنة عمليات السوق المفتوحة في البنك المركزي الأردني، في اجتماعها السادس لهذا العام، تخفيض “سعر الفائدة الرئيسي” للبنك المركزي وباقي أسعار فائدة أدوات السياسة النقدية بمقدار “25” نقطة أساس. وقد تم تطبيق هذا القرار اعتباراً من صباح يوم الأحد الماضي، الموافق 21 أيلول 2025م، في إطار نهج البنك المركزي لمتابعة التطورات الاقتصادية والنقدية والمالية محلياً ودولياً، واتخاذ الإجراءات اللازمة للحفاظ على الاستقرار النقدي والمالي في الأردن. تأتي هذه الخطوة وسط توقعات بمزيد من التخفيضات في المرحلة المقبلة.
ومع هذا الإعلان، طرأت تساؤلات عديدة حول الجدوى الفعلية لمثل هذه القرارات على حياة المواطنين اليومية، مع العلم أن البنك المركزي سبق أن أصدر سلسلة من “التخفيضات” الملزمة لكافة البنوك العاملة في المملكة، لتنعكس بالتدريج على قروض الأفراد والشركات وفق دورية تعديل الفائدة المنصوص عليها في العقود، سواء كانت سنوية أو نصف سنوية أو ربع سنوية، أي أن الفائدة تُراجع تلقائياً عند حلول موعد التعديل المتفق عليه في العقد.
كان من المفترض أن تخفف هذه “التخفيضات” من كلفة الاقتراض وتقلل الأعباء المالية، خاصة على أصحاب القروض السكنية طويلة الأجل، لكن في الواقع، لم يشعر المواطنون بأي أثر إيجابي. بل وجدت شريحة واسعة منهم أن الأقساط ترتفع بدلاً من أن تنخفض، حتى في القروض المنتهية بالتمليك ذات الفائدة المتناقصة. وهكذا تتحول وعود التيسير النقدي إلى عبء إضافي يثقل كاهل الأسر الأردنية، كاشفة عن فجوة عميقة بين ما يُعلن في بيانات السياسة النقدية وما يعيشه المواطن فعلياً.
فجوة بين الأرقام والواقع
من الواضح أن القروض الأكثر شيوعاً بين الموظفين والمتقاعدين وذوي الدخل المتوسط، هي القروض السكنية المنتهية بالتمليك، حيث تُسوّق عادة بشعارات مثل “الفائدة المتناقصة” أو “العائد المخفض”. وطرحت بعض البنوك مبادرات بفوائد ثابتة أولية مرتبطة بقرارات البنك المركزي. ومع ذلك، عندما يصدر قرار فعلي بخفض الفائدة، لا يلمس المقترض أي انعكاس على قسطه الشهري، حيث تحتوي العقود غالباً على بنود تسمح للبنوك بإعادة التسعير وفق آليات داخلية أو بمواعيد غير متزامنة مع قرارات المركزي، مما يمنحها القدرة على الاحتفاظ بهوامش أرباحها على حساب المواطن.
عبء مديد على الأسر
النتيجة أن القروض، التي يفترض أن تساعد المواطن على امتلاك بيت العمر، تحولت إلى عبء دائم يستنزف الراتب. فبدلاً من أن يرى المستفيد من “الفائدة المتناقصة” قسطاً يتراجع مع مرور الوقت، يجد نفسه أمام تثبيت للفائدة عند مستويات مرتفعة أو زيادات متواصلة، في تناقض تام مع الهدف المعلن للسياسة النقدية.
استجابة البنوك للتخفيضات
البنوك التجارية، من جهتها، تتعامل مع قرارات خفض الفائدة بانتقائية واضحة. فهي تسارع لتقليص العوائد على المدخرات لتقليل كلفتها الداخلية، لكنها تتباطأ في تمرير التخفيض للمقترضين، أو تحجب أثره بصيغ تعاقدية معقدة. وهذا يعني أن البنوك تتجنب خفض الفائدة على القروض لتظل أرباحها محفوظة على حساب المقترض. وبالتالي، يبقى المواطن الحلقة الأضعف، يدفع أقساطاً أعلى في وقت ترتفع فيه كلف المعيشة وتتآكل قدرته الشرائية، ورغم أن تعليمات البنك المركزي تنص على حماية المستهلك المالي وضمان الشفافية والعدالة، إلا أن غياب آلية رقابية صارمة جعل البنوك تتعامل مع القرارات وكأنها شأن داخلي بحت.
فترة التباطؤ والتحديات
صحيح أن هناك فترة تباطؤ طبيعية بين قرارات خفض الفائدة وانعكاسها على السوق، نتيجة ارتباط القروض الممنوحة بكلف الودائع القائمة، التي تحتاج إلى آجال زمنية لإعادة تسعيرها. لكن المتعارف عليه أن هذه الفترة لا تتجاوز “ربع سنة” في معظم الحالات، ومع ذلك، فإن استمرار ارتفاع الأقساط بعد مرور هذه المدة يعكس خللاً في آليات تمرير القرارات إلى المستهلك النهائي.
تعزيز دور جمعيات حماية المستهلك
يجب تفعيل وتعزيز الدور المطلوب من جمعيات حماية المستهلك في الأردن، على غرار ما هو معمول به في الدول المتقدمة، حيث تشكل هذه الجمعيات أداة ضغط قوية عبر توجيه المستهلك وتوفير المعلومة والضغط على السياسات. لذلك، فإن ضعف هذه الجمعيات أو خضوعها للسيطرة يترك المواطن وحيداً في مواجهة البنوك، ويضاعف من مسؤولية السلطات النقدية والرقابية في ضمان العدالة والشفافية.
ضرورة اتخاذ قرارات صارمة
المطلوب اليوم ليس بيانات جديدة أو وعود عامة، بل قرارات واضحة وصارمة تُلزم البنوك التجارية بالالتزام الفوري بقرارات المركزي. يجب فرض آلية ملزمة تعيد احتساب أقساط القروض السكنية وفق أسعار الفائدة الجديدة فور صدور القرارات، لا عند دورة إعادة التسعير السنوية. كما ينبغي على البنوك نشر تقارير شفافة توضح للمجتمع والسلطات الرقابية كيف انعكست التخفيضات على القروض، مع إتاحة مسار رقابي مباشر يمكّن المواطن من تقديم شكوى إذا لم تُخفض أقساطه بما يتناسب مع السياسات النقدية. من الضروري أيضا إعادة النظر في العقود القديمة وتعديلها بما يتماشى مع القرارات الوطنية، فامتلاك منزل ليس مجرد حلم، بل حق يجب أن يُضمن دون تأخير.
في النهاية، فإن عدالة السياسات الاقتصادية لا تُقاس بالأرقام المجردة، بل بمدى انعكاسها على حياة المواطن. إذا أراد البنك المركزي أن تحمل قراراته وزناً حقيقياً، فعليه أن يضمن أن كل نقطة أساس يخفضها تصل مباشرة إلى جيب المقترض، وألا تبقى أسيرة بنود غامضة أو جشع البنوك التجارية.
بدون ذلك، ستظل الفائدة تنخفض على الورق فقط بينما الأقساط ترتفع في الواقع. إن إعادة النظر في القروض السكنية لم تعد مطلباً شعبياً فحسب، بل ضرورة وطنية لضمان العدالة والاستقرار الاجتماعي، وإعادة التوازن بين قوة البنوك وحق المواطن.