"استشراف آفاق جديدة: الحوار حول أزمة الديون العالمية وسبل تعزيز التنمية المستدامة"

"استشراف آفاق جديدة: الحوار حول أزمة الديون العالمية وسبل تعزيز التنمية المستدامة"

شدد الدكتور محمود محيي الدين، مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة لتمويل التنمية المستدامة والمكلف من الأمين العام للأمم المتحدة برئاسة فريق الخبراء لتقديم حلول لأزمة الديون العالمية، على أهمية إجراء تغييرات جذرية في معالجة أزمة الديون من خلال حشد التمويل المحلي وعدم الاكتفاء بالاقتراض الخارجي، داعيًا مؤسسات التمويل الإنمائي إلى اعتماد سياسات جديدة وعادلة في هذا المجال.

جاء ذلك خلال ندوة عقدت في مقر مجموعة البنك الإسلامي للتنمية في جدة، بعنوان “إعادة تصور التمويل العالمي للتنمية مع معالجة أزمة الديون”، بحضور عدد من كبار المسؤولين في المجموعة وخبراء اقتصاديين، حيث تناول الدكتور محيي الدين سبل تعزيز التنمية المستدامة، خاصة في دول الجنوب، وكذلك مواجهة التحديات الاقتصادية والمالية الراهنة التي تعيق عملية التنمية.

وأشاد محيي الدين في بداية الندوة بالجهود التي يبذلها البنك الإسلامي للتنمية منذ تأسيسه، من خلال ضخ رأس المال لمشروعات التنمية وتعزيز الشراكات وتبادل المعرفة، الأمر الذي يسهم في دفع عجلة النمو الاقتصادي والتنمية الشاملة في الدول الأعضاء.

سد فجوة أهداف التنمية المستدامة وأزمة الديون

حيث تناول محيي الدين التحديات الكبرى التي تواجه تحقيق أهداف التنمية المستدامة (SDGs)، مشيرًا إلى أن فجوة التمويل قد تضاعفت من 2.5 تريليون دولار إلى 4 تريليونات دولار وفقًا لتقارير الأمم المتحدة، وأوضح أن العالم يشهد تراجعًا في التعاون الدولي، مع تفاقم النزاعات الاقتصادية وفرض قيود على الاستثمار وتبادل المعرفة وحركة العمالة، خاصة من الاقتصادات المتقدمة.

ومع ذلك، قدم محيي الدين نماذج ناجحة لدول وتكتلات اقتصادية كبرى مثل الصين والهند ودول رابطة أمم جنوب شرق آسيا (آسيان)، حيث أظهرت هذه الدول تقدمًا ملحوظًا في القضاء على الفقر المدقع، ليس فقط من خلال حشد رأس المال الخارجي، بل أيضًا عبر تعبئة الموارد المحلية والاستثمار الأمثل في البنية التحتية، بما في ذلك الرقمية، بالإضافة إلى بناء القدرة على الصمود وتمتين المجتمعات ضد الصدمات.

وأكد محيي الدين أن هذه الدول أثبتت أن عدد السكان ليس عائقًا أمام تحقيق التنمية، بل إن الاستغلال الأمثل للثروة البشرية يمكن أن يقود لتحقيق أهداف التنمية المستدامة والنمو الاقتصادي المستدام.

دور المؤسسات والإرادة السياسية

وفي ردّه على تساؤل حول أسباب ضعف أداء بعض الدول الأعضاء في البنك، لا سيما الدول الأقل نموًا وتلك التي تشهد ظروفًا هشة، أكد محيي الدين أن المشكلة ليست فقط مالية، بل تتعلق في الأساس بنجاح العمل المؤسسي ووجود الإرادة السياسية، مستشهدًا بنماذج سنغافورة وكوريا الجنوبية، اللتين انطلقتا من الفقر المدقع إلى النهوض بفضل الإصلاحات والإرادة السياسية التي أدت إلى بناء مؤسسات قوية.

وشدد محيي الدين على أن الأمر يتطلب عملاً جماعياً من قبل مجموعة من الأشخاص الخبراء والمؤسسات الفعالة الملتزمة بالإصلاح والتنمية، مشيرًا إلى أن التاريخ يحمل العديد من الأمثلة التي تؤكد هذه الحقيقة.

أزمة الديون الصامتة ومستقبل التمويل الإنمائي

وصف الدكتور محيي الدين أزمة الديون الحالية بـ”أزمة الديون الصامتة”، حيث تضطر العديد من الدول إلى تقييد الإنفاق العام على التعليم والصحة والخدمات الأساسية من أجل سداد ديونها، مما يؤثر سلبًا على مستقبلها التنموي.

وأوضح أن الجهات المانحة قد تغيرت، حيث انخفضت حصة نادي باريس من الإقراض بشكل كبير، بينما زاد دور حاملي السندات والصين وبعض دول الأسواق الناشئة.

وشدد محيي الدين على ضرورة اعتماد نهج جديد لمواجهة هذه الأزمة، يتضمن تمويل المشروعات من خلال الشراكات بين القطاعين العام والخاص، وحشد التمويل المحلي بدلًا من الاعتماد على الاقتراض الخارجي، ودعا البنك الإسلامي للتنمية إلى التفكير في حلول مبتكرة لمعالجة أزمة الديون، مثل إنشاء صناديق خاصة خارج الميزانية للمساعدة في تخفيف أعباء الديون عن الدول المتعثرة.

توصيات لمواجهة أزمة الديون

واستعرض محيي الدين 11 توصية عملية توصل إليها فريق الخبراء المعين من قبل الأمين العام للأمم المتحدة لدراسة أزمة الديون، مشيرًا إلى أن هذه التوصيات لاقت ترحيبًا من الخبراء الاقتصاديين واللجان المعنية.

وأضاف أن التوصيات تندرج تحت ثلاثة محاور رئيسية، أولها يتعلق بإصلاح نظام التمويل متعدد الأطراف، حيث يهدف هذا المحور إلى معالجة الاختلالات الهيكلية في نظام التمويل والدين العالمي عبر تعاون عالمي واسع، وتشمل المقترحات المقدمة:

1إعادة توجيه وتجديد موارد الصناديق القائمة ببنوك التنمية متعددة الأطراف وصندوق النقد الدولي لتعزيز السيولة.
2تطبيق وقف خدمة الديون خلال الأزمات، بما في ذلك الكوارث المتعلقة بالمناخ.
3إصلاح الإطار المشترك لمجموعة العشرين ليشمل جميع البلدان متوسطة الدخل.
4إصلاح تحليلات القدرة على تحمل الديون لصندوق النقد الدولي لتعكس وضع البلدان بدقة.
5إعادة توجيه حقوق السحب الخاصة من خلال صندوق المرونة والاستدامة.

كما أشار محيي الدين إلى المحور الثاني، والذي يركز على تعزيز التعاون الدولي والإقليمي، حيث يتضمن:

6إنشاء مركز مشترك للمعلومات لتقديم المساعدة الفنية والإرشادات بشأن الأدوات المالية المبتكرة.
7إنشاء منتدى للمقترضين لتبادل المعرفة والخبرات وتعزيز تمثيلهم في المحافل الدولية.
8توسيع نطاق المساعدة الفنية وتنمية القدرات لإدارة الديون بكفاءة.

وأكد محيي الدين أن المحور الثالث يركز على تشجيع الدول المقترضة على اعتماد سياسات وإصلاحات وطنية تعزز مرونتها الاقتصادية، ويشمل:

9تعزيز القدرات المؤسسية لمعالجة مخاطر السيولة والتعرض لأسعار الفائدة.
10تحسين جودة مشروعات التنمية القابلة للاستثمار لجذب تمويل أفضل.
11خفض تكاليف المعاملات وزيادة تأثير الأدوات المالية المبتكرة.

وأكد محيي الدين أن هذه الاقتراحات، إذا تم تصميمها وتنفيذها بشكل فعّال، فإنها تتيح طريقًا واقعيًا للخروج من أزمة الديون وتحقيق التنمية المستدامة، مشددًا على ضرورة معالجة كل حالة من حالات الدول المدينة بشكل منفصل.

أهداف التنمية المستدامة 2030 ودور التمويل الإسلامي

وفيما يتعلق بمستقبل أهداف التنمية المستدامة وأجندة 2030، ذكر محيي الدين أن الأمم المتحدة تسعى لتسريع تحقيق الأهداف على الرغم من التحديات، مطلعًا على أن 15% فقط من الأهداف تسير بشكل جيد، بينما شهدت 55% تراجعًا، فيما أصبحت النسبة المتبقية في وضع أسوأ مما كانت عليه عند الاتفاق على الأهداف عام 2015.

وأوضح أنه رغم تحقيق بعض الدول في أفريقيا تقدمًا ملحوظًا، إلا أن هذه المشكلة ليست محصورة بالدول النامية أو الناشئة.

وفي سياق التمويل الإسلامي، أشار محيي الدين إلى النمو الذي حققه، لكنه أضاف أن دمجه في النظام المالي العالمي لا يزال أقل من المتوقع، داعيًا تركيز الجهود على الممارسات المحلية ومحركات التغيير التي يمكن أن تعزز من تأثير التمويل الإسلامي، من خلال أدوات مثل الرقمنة، والذكاء الاصطناعي، والاستدامة، لتعزيز القدرة التنافسية للمنتجات.

وفي ختام اللقاء، أعرب محيي الدين عن أمله في أن يقوم البنك الإسلامي للتنمية بتبني التوصيات الخاصة بعلاج أزمة الديون وأن يعمل على تنفيذها، خاصةً فيما يتعلق بتأسيس نادي المقترضين، معتبرًا أن هذه الخطوة ستعزز دور البنك وتأثيره في المشهد التنموي العالمي.